تركيا- ملحمة الديمقراطية، قوة الوحدة، ومستقبل واعد

في غمرة الفخر والاعتزاز، يستحضر الشعب التركي الأبيّ ذكرى شهدائه الأطهار، الذين تصدّوا بصدور شامخة، مسلّحين بالإيمان العميق بالله والوطن، لمحاولة خسيسة لانتزاع الدولة ومقدراتها، مستخدمين صناديق الذخيرة بدلًا من صناديق الاقتراع.
في مثل هذا اليوم، قبل ستة أعوام مضت، شهدت تركيا محاولة انقلابية بائسة، دبّرتها خفافيش الظلام من جماعة غولن الإرهابية، الذين تسللوا إلى بعض الوحدات العسكرية، في غفلة عن القيادة الرشيدة للمؤسسة العسكرية التركية الأصيلة. لم تدم هذه المحاولة الدنيئة سوى بضع ساعات معدودة، فسرعان ما استعادت مؤسسات الدولة عافيتها، وأحكمت قبضتها على زمام الأمور، وطاردت فلول الانقلابيين المارقين، والتفّ الشعب بكامل قواه خلف قيادته المنتخبة، وعلى رأسها فخامة الرئيس رجب طيب أردوغان.
لقد صوب هؤلاء الخونة فوهات بنادقهم نحو أبناء الشعب الوفي، الذين أقسموا اليمين الغليظة على حماية أرواحهم، وصون مصالحهم. إن هذا لَأمرٌ يدمي القلوب ويُحزن النفوس، ونحن نسترجع تفاصيل هذا اليوم العصيب، الذي أزهقت فيه أرواح أكثر من 250 مواطنًا تركيًا، من العسكريين والمدنيين الشجعان، الذين وقفوا كالطود الشامخ في وجه المتمردين.
وبما أنّ الجمهورية التركية هي دولة مؤسسات راسخة، فقد تمّ التعامل مع الانقلابيين وفقًا للقانون، ولم تُراق قطرة دم واحدة منهم، بل أُحيل أمرهم إلى المحاكم العادلة، التي نثق بنزاهتها واستقلال قضائها.
في المقابل، تجلّت الروح الوطنية لدى الشعب التركي، وتشبثه بوحدته وتلاحمه، والتفافه حول الراية الحمراء الخفاقة، التي تجمعه وتُظلّه. وكان من ثمار هذه الوحدة المباركة، أن اختار الشعب، عبر استفتاء شعبي في عام 2017، العبور نحو المستقبل المشرق، عبر نظام رئاسي جديد، وبدأت تركيا تحقق الإنجازات تلو الإنجازات، في حماية ترابها وسمائها، وتعزيز استقلال قرارها السياسي، وتمكنت من الاعتماد على نفسها في تأمين أكثر من 70% من احتياجاتها العسكرية، وأدارت بكفاءة واقتدار أزمات جمة ومتلاحقة، ليس أولها جائحة كوفيد-19، ولم تكن آخرها الحرب الروسية على أوكرانيا بتداعياتها الاقتصادية والجيوسياسية، بل حولت كل هذه التحديات إلى فرص واعدة ومتتالية.
وبينما تضطلع القوات المسلحة التركية بمهامها المقدسة في حماية الوطن والدفاع عنه، شهدت تركيا في السنوات الست الماضية تطورا صناعيا لافتا، تخلله إطلاق العديد من المشروعات الاستراتيجية الهامة، منها اكتمال تحفة معمارية فريدة، ألا وهي جسر "جناق قلعة" العملاق فوق مضيق الدردنيل، ليصبح ثالث أطول جسر معلق في أوروبا، ويربط المحافظات المحيطة بالعاصمة في زمن قياسي، وقبل نهاية العام الجاري، سيتم الاحتفال بإطلاق أول سيارة كهربائية تركية الصنع، لتنضم إلى قافلة الإنجازات التركية المتصاعدة.
لم تكن خطة الانقلاب وليدة اللحظة أو مجرد فكرة محلية عابرة، فبالرغم من أن هذه المنظمة الإرهابية كانت الواجهة الظاهرية للانقلاب، إلا أنه من المؤكد أنها نفذت هذه المحاولة الخائبة استجابة لمؤامرة واسعة النطاق، شاركت فيها أطراف إقليمية ودولية خبيثة، خصصت لها المليارات الطائلة، وسخرت لها وسائل الإعلام المغرضة، ورتبت لها الترحيب والاعتراف الفوري بمجرد الإعلان عن نجاحها المزعوم. ولكن وقفة الشعب التركي الباسلة في تلك الليلة الحالكة، أفشلت هذه المؤامرة الدنيئة في غضون ساعات قليلة، وإن مرت على الأتراك كأنها شهور طوال.
إن تركيا لا يمكن أن تقبل بأي حال من الأحوال، أن يقدم شركاؤها في حلف شمال الأطلسي، ولا الدول الديمقراطية، الدعم للمنظمات الإرهابية التي أطلقت الرصاص الغادر على شعبها في 15 تموز، ولا تزال تهاجم الأراضي التركية وتوجه أسلحتها الخبيثة في وجه مؤسسات الدولة التركية العسكرية والأمنية.
فمن غير المعقول أن تقوم دول صديقة بتقديم التمويل والمأوى الآمن لمن يهاجم الشعب التركي، بينما هي عضو أصلاً أو تسعى جاهدة للانضمام إلى حلف الناتو، الذي هو منظمة دفاعية بالأساس، ومعنية بمكافحة الإرهاب والقضاء عليه. لذلك، تدعو تركيا الدول الطامحة للانضمام إلى حلف الناتو، إلى أن تكون حريصة كل الحرص على أمن شركائها، حين يتعلق الأمر بالمخاوف الأمنية المشروعة لدولة محورية بحجم تركيا في منظومة حلف شمال الأطلسي، وشريك فاعل ومؤثر فيه.
كما تتبوأ تركيا اليوم مكانة مرموقة في الحركة الدبلوماسية النشطة، الرامية إلى التقريب بين طرفي النزاع الروسي الأوكراني، وكانت مدينة أنطاليا التركية مسرحًا لأول لقاء مباشر بين وزيري خارجية البلدين، باستضافة كريمة من وزير الخارجية التركي السيد مولود جاويش أوغلو. وتشدد تركيا على موقفها المستقل والثابت في هذه الأزمة، والذي يؤهلها للعب دور الوسيط النزيه، متى ما توفرت الإرادة السياسية الصادقة لدى مختلف الأطراف المعنية.
لقد نجحت تركيا بفضل الله في تطهير مناطق واسعة من الشريط الحدودي، الذي اتخذه إرهابيو منظمة "بي كي كي" (PKK) المتطرفة، منطلقًا لتنفيذ عملياتهم الإجرامية ضد تركيا وشعبها الأبيّ، وكان لزامًا على الدولة التركية حماية أمنها القومي، وقامت بشن عمليات عسكرية ناجحة، مثل درع الفرات ومخلب القفل، حتى باتت هذه التنظيمات الإرهابية المتطرفة في وضع بالغ الصعوبة، وستتخذ تركيا في سبيل حماية حدودها وأمنها القومي، كل ما يلزم من إجراءات حاسمة، انطلاقًا من حقها المشروع في الرد والدفاع عن النفس، وسيادتها الكاملة على ترابها الوطني، ومكافحة الإرهاب بكل أشكاله وصوره.
وبينما تواصل القوات المسلحة التركية الباسلة أداء مهامها النبيلة في حماية الوطن ورعاية مصالحه، شهدت تركيا في السنوات الست الماضية نهضة صناعية شاملة، تخللها إطلاق العديد من المشروعات التنموية الهامة، منها الانتهاء من تشييد جسر "جناق قلعة" المعلق فوق مضيق الدردنيل، والذي يُعدّ تحفة هندسية رائعة، ليصبح ثالث أطول جسر في أوروبا، ويربط المحافظات المحيطة بالعاصمة بأنقرة في زمن قياسي، وقبل نهاية العام الحالي، سيُقام احتفال بهيج لإطلاق أول سيارة كهربائية تركية الصنع، لتنضم إلى سجل الإنجازات التركية الحافل.
تتبنى تركيا سياسة الدبلوماسية النشطة، التي تهدف إلى احتواء الخلافات وتسوية النزاعات، على أساس من الاحترام المتبادل، وإرساء مبدأ الحوار الثنائي البناء، وقد شهدت الفترة الأخيرة استعادة العلاقات الدبلوماسية مع العديد من الدول العربية الشقيقة، وعادت المياه إلى مجاريها، وزار فخامة الرئيس التركي المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، كما رحبت تركيا بمبادرة "اتفاق العلا"، وشجعت الأشقاء في الخليج العربي على اتخاذ كل ما من شأنه عودة اللحمة والوئام بين الإخوة، وذلك انطلاقًا من مبدأ أساسي يعتبر حجر الزاوية في السياسة الخارجية التركية، وهو أن أمن الخليج العربي هو جزء لا يتجزأ من أمن تركيا القومي.
ونحن اليوم، يسعدنا أن نشارك شعبنا التركي الأبيّ إحياء هذه الذكرى المجيدة من أرض قطر الطيبة، التي سجلت في تلك الليلة الفارقة موقفًا أخويًا تاريخيًا لا يُنسى، إذ كان سمو أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أول المتصلين بأخيه فخامة الرئيس رجب طيب أردوغان، للتعبير عن المساندة القطرية المطلقة للحكومة الشرعية المنتخبة، والوقوف صفًا واحدًا مع الشعب التركي الشقيق، لإحباط كل مؤامرة تمس أمنه وحقوقه وسلامة مؤسساته.
لقد مثّل يوم 15 يوليو/تموز انتصارًا مدويًا لكلّ الأمة العربية والإسلامية، وكما صرح الرئيس أردوغان أمام البرلمان التركي: "لم تكن مجرد محاولة انقلابية عادية، بل كانت نقطة تحول تاريخية فارقة، ففي تلك الليلة المشؤومة، قصف الانقلابيون مبنى البرلمان، الذي يمثل رمز الديمقراطية في تركيا، لأنهم كانوا يهدفون إلى إعادة تركيا إلى عهود الدكتاتورية والقمع والإرهاب، ولكن هيهات لهم ذلك".
لقد كان الانقلاب الفاشل خير دليل قاطع على أن الديمقراطية هي الخيار الأمثل لشعبنا، وأن جماهير شعبنا التركي العظيم، بفضل وطنيتهم المتأصلة وإيمانهم الراسخ بأمتهم، هم الذين حولوا المحاولة الانقلابية الفاشلة إلى ملحمة بطولية خالدة في تاريخ تركيا الحديثة، وشاركهم في هذا الإنجاز النواب الأتراك الأفاضل، الذين وقفوا جميعًا -موالاة ومعارضة- بحزم وعزم في وجه الانقلابيين.
إن تركيا تمدّ يد المحبة والسلام إلى جميع شعوب العالم، وإلى الحكومات والمؤسسات الديمقراطية، وهي تدعو إلى تشكيل دعائم نظام عالمي جديد، ينهي الهيمنة الأحادية القطب، ويؤسس لعالم يسوده الأمن والسلام والاستقرار، عالم خال من بؤر الإرهاب المقيت، وبراكين الظلم والعدوان، واحتلال الشعوب ونهب ثرواتها ومقدراتها، وهي تشدد في علاقاتها مع الدول الأخرى على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
نعم، إن تركيا ما بعد الانقلاب ليست أبدًا كتركيا قبل الانقلاب، فقد تخلصت من براثن الدولة العميقة، وها هي تستعد لخوض جولة جديدة من الديمقراطية والتقدم، إذ يتهيأ جموع الشعب التركي لخوض الانتخابات الرئاسية التركية بعد أقل من عام، وستظل كلمة الشعب هي العليا، وحرياته مكفولة ومصونة بالدستور والقانون.
لقد خرجت تركيا أكثر قوة ومنعة وصلابة بعد تلك المحاولة الانقلابية البائسة، وبدأت في اتخاذ الكثير من التدابير الضرورية لإعادة هيكلة مؤسساتها وتقويتها.
التحية والإجلال للشعب التركي الأبيّ في يوم الحرية والديمقراطية، وكلّ الأماني الصادقة له بمزيد من الرخاء والتقدم والازدهار.